بقلم : زينب .ع.م. البحراني
ينقلب التّوقيت رأسًا على عقب. يدخل الليل في صُلب النّهار وتمتزج السّاعات بالثّواني، وأتحوّل إلى سُلحُفاةٍ لا مفرّ لها من التقوقع في بطن صدفتها لئلا يُسيء العالم المُحيط بها فهم غرابة أطوارها المُفاجئة. يحدُث هذا حين أنغمس في كتابة عملٍ أدبيّ جاد بكلّ حواسّي وأحاسيسي، فأنسى نفسي. وأنسى معها أن آكُل، وأن أشرب، وأن أستحمّ، وأن أمسح الغُبار من حولي، وأن أخرج من حُجرتي للتّحدّث مع أفراد أسرتي. ولا أتذكّر أنّ هُناك عالمًا آخر يتنفّس خارج حدود الحجرة التي أنكبّ فيها على أوراقي إلا حين ينتفض هاتفي المحمول فجأة، أو يطرق أحد أفراد أسرتي الباب كي يراني. حينها أجد صوتي ينفلت من حنجرتي كقادمٍ من عالم الأشباح، وأشعُر بإعياءٍ روحيّ وجسديّ لا يوصف أثناء مُحاولاتي للتّواصل مع العالم الخارجيّ في تلك الأوقات، لأنّني أكون هشّة، شفّافة، ضعيفة بمشاعري العارية في وجه عالمٍ لا يسعها التكيّف معه دون أن تكون مُصفّحة بما فيه الكفاية لاحتماله، وتتقمّصني شخصيّة بطل أو بطلة النّص القصصيّ أو الرّوائيّ بنسبة تسع وتسعين بالمائة، فيبكي بعيني، ويضحك من حنجرتي، ويتنفّس برئتيّ، ويُعبّر عن إحباطاته وبهجته وحُبّه وجنونه بي انا. كلّ هذا يجعلني أبدو في مظهرٍ غير مفهوم للنّاس الذين لم يخوضوا تلك التّجربة اللذيذة المؤلمة في الوقت ذاته، لا سيّما أولئك الذين لا يعرفونني جيّدًا، فأتّهم بالإهمال، أو الانعزاليّة، أو عدم تحمّل المسؤوليّة، أو غرابة الأطوار إلى حدّ المرض. خصوصًا وأنّ عدد الكُتّاب المُخلصين، الذين يخوضون تجربة الكتابة بكلّ أحاسيسهم ووقتهم وحواسّهم أقلّ كثيرًا ممن لا تتعدّى حروفهم عناء حركة الأصابع. وتلك الهوّة الهائلة بين عالم الكاتب السريّ، وبين نظرة عامّة النّاس له وتصنيفهم إيّاه وفق مقاييسهم النمطيّة والمُكرّرة، هي السبب في سوء الفهم الجماعيّ، والذي قد يبلغ حدّ الإيذاء اللفظي في أحيانٍ كثيرة، للكاتب الأديب.. وإلى هذا يُشير النّاقد (أنور الخطيب) في نصّ له على صفحات جريدة الإتّحاد الإماراتيّة بقوله: " أرى أنّ قطاعات كبيرة من القرّاء المُحترفين والعاديين يجهلون عوالم الكُتّاب الدّاخليّة، ويجهلون أزماتهم وأمزجتهم وتركيباتهم النّفسيّة، ولذلك يُحاسبونهم كما يُحاسبون أيّ إنسان عاديّ وفق نفس المعايير ويُصدرون أحكامًا جائرةً في حقّهم. إنّ بصمة المُبدع هي جودة نتاجه كما هي في حياته، لكنّ ما يظهر للنّاس هو ما يُقدّمه لهم، وبالتّالي ترسم صور مثاليّة كثيرة... نحن بحاجة إلى فهم أوسع لطبيعة المُبدع."
من جهةٍ أخرى؛ فإنّ نفسيّة الأديب المُرهفة بطبيعتها، والتي تمتاز بخصائص إنسانيّة مُختلفة، غير قابلة للتّفسير، وغير قابلة للتّدجين، وغير قابلة للانسياق مع هامشيّة النّمط العام، وسطحيّته، وازدواجيّته الفكريّة والسّلوكيّة، تجعل من تكيّفه مع المُجتمع الخاضع لتلك النّمطيّة - بكلّ ما فيها من أخطاء- قضيّة شبه مُستحيلة، وتفاهمه مع هذا المُجتمع، دون اضطرارٍ للنّفاق أو الإسراف في المُجاملة، والتّورية، وتزييف الكثير من الحقائق، أمرٌ شديد الصّعوبة، وهو ما يُذكّرني بحديث الكاتبة (نوال السّعداوي) على صفحات روايتها (امرأتان في امرأة) حين قالت: " التّفاهُم مع النّاس مُستحيل يا بهيّة. النّاس لا يُريدون إنسانًا حقيقيّا. تعوّدوا تزييف كُلّ شيء حتّى أنفُسهُم، وبمرور الزّمن نسوا شكل أنفُسهُم الحقيقيّة. وحين يرون إنسانًا حقيقيّا تُفسدهم حقيقته إلى حدّ الشّروع في قتله أو قتله فعلاً. ولذلك فلا بُدّ لهذا الإنسان أن يكون مُطاردًا دائمًا، أو مقتولاً أو محكومًا عليه، أو مسجونًا، أو معزولاً في مكان بعيد عن النّاس."
لهذا نُلاحظ انصياع الكثير من المُبدعين لخيار العُزلة وقايةً لأنفسهم وإبداعهم من أذى الجهلاء وغير المُتفهّمين من عامّة النّاس، إلى جانب أذى الواهمين من المُتطفّلين على الأوساط الإبداعيّة بثرثرتهم دون أحاسيسهم. لكنّ العزلة هي الأخرى تغدو خيارًا شبه مُستحيل أمام الظّروف الأسريّة أو الماديّة لمُبدعين آخرين، الأمر الذي قد يُجبر المُبدع على التّخلي عن علاقته بالكتابة، أو الفنّ. إمّا كي يعيش بسلام، أو ليضع حدًا خاتمًا لخيباته المعنويّة وإحباطاته الرّوحيّة الكبيرة، بإحباطٍ أخيرٍ واحد يتسيّد موقفه من الارتباط بموهبته، وارتباط اسمه بها.
|
الخميس، 23 سبتمبر 2010
مُعاناة المُبدع بين جموح الموهبة..وجهل المُجتمع
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق